ماذا في صندوق «باندورا» غير الفساد؟

ماذا في صندوق «باندورا» غير الفساد؟ ويا تلفزيون الجزائر مهلا!

حين سمعتُ تلفزيونات العالم تتحدث هذه الأيام عن «وثائق باندورا» استرجعت ذاكرتي شيئا مما كنت قرأت منذ سنوات عن «صندوق باندورا» المستمد من الأسطورة اليونانية القديمة التي تتحدث عن صراع «الآلهة» وعن خلق أول امرأة في الكون، حيث مُنحتْ صندوقًا، لكن بشرط عدم فتحه مُطلقا. غير أن المرأة تمردت على الأمر، فلم تجد في الصندوق لا ذهبًا ولا فضة أو جواهر، وإنما خرجت منه كائنات مرعبة، اعتبر مفسّرو «الميثولوجيا» بكونها تعني كل الشرور التي سيشهدها العالم من أمراض وحروب ومجاعات وأوبئة وغيرها.
الأرجح، إذنْ، أنّ من كانوا وراء التحقيق الصحافي المشترك، حينما أطلقوا عليه اسم «وثائق باندورا» كانوا يستحضرون دلالات «صندوق باندورا» أو «جرّة» باندورا في رواية أخرى مما تمخض عن أساطير بلاد الإغريق.
تتعلق القضية بدراسة جديدة أنجزها «الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين» على مدى ما يقرب من عامين، جمعت أكثر من 600 صحافي من 151 مؤسسة إعلامية، وأماطت اللثام عن جوانب من الثروات الهائلة التي كدّسها قادة سياسيون من بلدان مختلفة، حيث يمتلكون هم وأسرهم قصورا وعقارات خارج بلدانهم، ويتوفرون على شبكة من الشركات العابرة للحدود الوطنية تتولّى إدارة ممتلكاتهم وأعمالهم التجارية، بأشكال ملتبسة من أجل التهرّب الضريبي والبحث عن «ملاذ ضريبي» آمن (أو «جنة ضريبية» حسب الترجمة الحرفية عن الفرنسية، وهي الأقرب إلى الدلالة المقصودة).
كان طبيعيا أن تختلف ردود فعل بعض مَن وردت أسماؤهم في القائمة بين نفي الادعاءات جملة وتفصيلا، وبين مَن هدّد بمقاضاة الجهة صاحبة التحقيق الاستقصائي، فيما آثرت فئة ثالثة التزام الصمت، لما فيه من «حكمة» بنظرها.
تتناسل هذه الأيام أسئلة عديدة في شأن الضجة الحالية، عبر عدد من القنوات التلفزيونية العالمية من قبيل: من أين جاءت تلك الأموال والثروات؟ أهي مكتسبة بشكل غير قانوني أم بخلاف ذلك؟ وكيف جرى تهريبها إلى خارج البلدان الأصلية؟ ألم يكن بالإمكان، عوض ضخّها في «الجنّات الضريبية» لمنافع ذاتية محضة، أن تُرصد تلك الأموال من أجل التنمية الاجتماعية والاقتصادية للدول المعنية؟
لكنْ… وكما قال خبير في تبييض الأموال والتهرّب الضريبي لقناة «فرانس 24» إن الشغل الشاغل لـ»أبطال» هذه الممارسات هو تأمين العيش لما بعد التوقف عن ممارسة المهام في السلطة بالنسبة لبعضهم، وتراكم المزيد من الثروات ومن رفاه العيش بالنسبة للبعض الآخر.
«وثائق باندورا» إذنْ، حلقة جديدة من حلقات فضح انزلاقات العديد من الوجوه السياسية، وحملت تسميات متعددة: ويكيلكس، بنما، برادياز، وهلم جرا… وتلتقي كلها في كون الحكّام الذين تشير إليهم الأصابع بتكديس الثروات والعقارات والأملاك المختلفة بطرق غير مشروعة خارج بلدانهم، لا تهمّهم سوى ذواتهم التي يعتبرونها فوق كل متابعة أو محاسبة!

صفقات انتخابية!

وجهٌ آخر من أوجه الفساد، عاشه المغاربة خلال المسلسل الانتخابي الذي اختتم حلقته الأخيرة مساء الثلاثاء المنصرم باقتراع «مجلس المستشارين».
ففي مقابل التقارير التلفزيونية التي ترسم صورة وردية عن أجواء الانتخابات، تحدث الكثيرون عبر شبكات التواصل الاجتماعي وبعض المواقع الإلكترونية عن ممارسات غير قانونية طبعت انتخاب المجالس البلدية والجهوية، حيث صارت أصوات الناخبين ميدانا للمساومات، وتمكّن مرشحون متحزبون من الظفر برئاسة مجالس معينة نتيجة «شراء» الذمم، حسب روايات متداولة.
الخطير في المسألة أنها لا تخصّ مواطنين عاديين يدفعهم غياب الحس الأخلاقي أو الوطني أو تدفعهم الحاجة المادية إلى «بيع» أصواتهم، لكنها تتعلق بمرشحين ينتمون إلى أحزاب سياسية، وصوّت عليهم الناس من أجل الدفاع عن المصلحة العامة والسعي لترجمة البرامج والوعود الانتخابية على أرض الواقع؛ فإذا بأعينهم لا تتجاوز أنوفهم، وإذا بأدمغتهم لا تفكر سوى بما سيدخل إلى جيوبهم من أموال نتيجة الصفقات الانتخابية الخاصة بالمناصب!

«تنفيسة» سياسية!

وإلى لبنان، حيث تابع الناس منذ أيام قلائل حالة من الكوميديا السوداء، قامت فيها السلطة بممارسة المنع في حق فرقة مسرحية. ترك الحكام هناك الأزمة السياسية والاقتصادية الخانقة، وراحوا يصادرون حق مسرحيين في الإبداع.
الذين لم يحضروا وقائع الحدث مباشرة في شارع «الحمرا» في بيروت أو قبلها في «مسرح المدينة» تلقّوا تفاصيله إمّا عبر المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي، أو عبر بعض القنوات التلفزيونية الخاصة.
قناة «أم تي في» طرحت سؤالا عريضا: هل هو قمع للحريات أم تطبيق للقانون؟ مشيرة إلى أن السبب المعلن لمنع العرض هو عدم الحصول على إذن من الأمن العام، بينما يذكر ممثلون أن ذلك راجع لمضمون العمل الفني، الذي فهمت منه السلطة أنه موجه إلى المقام الرئاسي، مع أنه لم يجر ذكر أي اسم على لسان الممثلين. ذنب المسرحية الوحيد أنها أطلقت صرخة مدوية في وجه الفساد والمفسدين.
بينما كانت الفرقة تستعد لتقديم عرضها المعنون بـ»تنفيسة» إذا برجال أمن يقتحمون «مسرح المدينة» ويطلبون من المخرج إيقاف العرض. وهو ما حصل فعلا، لكنّ الممثلات والممثلين الشباب ارتأوا تقديم مشاهد منه في شارع «الحمرا». وبدا لافتا للانتباه أنهم كانوا يرددون نشيد «في بلادي ظلموني» الذي أبدعته جماهير كرة القدم المغربية!
قناة «الجديد» ارتأت أن تبدأ نشرتها الإخبارية بالحدث السياسي/ الفني نفسه، حيث جاء على لسان مقدمة النشرة: «على التقويم المسرحي، فإن لبنان مدينة، وشعبه «تنفيسة» فيما السلطات على أنواعها لن تسمح للممثلين بأن يتفوقوا عليها؛ فتدفعهم إلى العرض في الشارع.
قد يكون المخرج خرج فعلا عن سلطة الرقابة، ولم يستحصل على إذن عبور من الخشبة؛ لكن المشهد الدرامي هنا أن منع العرض جاء بعد استشعار سخرية من رئيس الجمهورية أو ما يعادله من هيصات «الهيلا هوو»… ولما تجسدت المشاهد على أرض الواقع في الحمراء، تحولت «التنفيسة» إلى قضية رأي عام في وجه الأمن العام الذي رفض الدراما السوداء، وهاجم من سمّاهم مدعي المعرفة الشاملة ومحاولات التذاكي، ووضع الأمر في إطاره القانوني، موضحًا أنه جرى الاتصال بالمسرح المعني الذي عمل القيمون عليه مشكورين على وقف عرض المسرحية، بعدما تبينت لهم مخالفة عرضها الأصول القانونية».

المغرب هو السبب!

وفي الجزائر يرتدي الفساد عباءة إعلامية، حيث لا شغل للقنوات التلفزيونية غير المغرب، إذ تُقحمه في جميع الموضوعات والقضايا. ولو أن جَملاً تعثّر في أقصى الصحراء الجزائرية، لقيل إن «المخزن المغربي» هو الذي أسقطه.
أكثر التصريحات مسخرة ما رددته «محللة» جزائرية عبر التلفزيون الرسمي، ففي تعليقها على التصريحات الأخيرة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول الجزائر، قالت إن «المخزن» هو من يقف وراءها، متحجّجة بأن معظم مستشاري ماكرون من المغرب! وأيّدها في ذلك الصحافي منشط الحوار قائلا «الأمور مرتبطة ببعضها البعض».
متى يُدرك إعلاميو التلفزيون الرسمي أن صحافة «البروباغاندا» ولّى عهدها. وحتى إذا أرادوا استعادة سيرتها غير المحمودة، فليفعلوا ذلك بذكاء، عوض أن يحوّلوا كلامهم إلى أضحوكة أمام العالم. والحال أن الإعلاميين المغاربيين مطالبون بالبحث عما يوحّد بين شعوب المنطقة لا عمّا يفرّقها.
يا تلفزيون الجزائر، رجاءً، كفى تغذية الأحقاد!

ذات صلة